السفينة بالأعظمية.. رحلة في أعماق الذكريات
من يقف على جسر الأئمة الذي يفصل بين منطقتي الكاظمية والأعظمية لابد أن يستنشق هواء طيباً عليلاً منعشاً
وتغترف اعماقه نفحات الإيمان من مرقدي الإمامين الكاظمين عليهما السلام وضريح الإمام أبي حنيفة النعمان رضوان
الله عليه، وتتجلى له من بين تلك الموجات العذبة الأواصر القوية والوشائج المتينة بين المنطقتين اللتين تآخيتا منذ
قرون طويلة واصبحت علاقتهما راسخة على مدى الحقب والعصور لا تنفصم عُراها أبداً فكلتاهما ضمتا في أديمهما
رموزا إسلامية خالدة، وكلتاهما اصبحتا من أهم مناطق مدينة بغداد منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لعمقهما التاريخي
ودورهما في تاريخ العراق الوسيط والحديث في المحافظة على اللحمة العراقية..
والعلاقة بين أهالي بغداد ومثلما سُميت الكاظمية نسبة الى الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليهما السلام ،
سميت الأعظمية نسبة الى الإمام الاعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه.
لماذا سميت محلة السفينة بهذه التسمية؟؟
اطلق اسم السفينة تحديدا لما يعرف حاليا برأس الجسر القديم قرب (المسناية)، وكان في هذا المكان بالتحديد جسراً
خشبيا لعبور المشاة والسيارات بين الأعظمية والكاظمية، وكان الجسر متحركاً لتسهيل عبور ومرور الدُوَّب (جمع
دوبة) والسفن الصغيرة وكان شط دجلة عريضاً وعميقاً جدا وكانت البواخر والسفن والدُوَّبْ تحمل البضائع من شمال
بغداد آتية بالضائع من المحافظات الشمالية وبيجي وتكريت وسامراء والضلوعية، وهي تشق عباب النهر باتجاه
الجنوب.. وعندما تصل الى منطقة المسنّاية بالأعظمية، التي تعرف برأس الجسر كذلك، كانت الناس من أهالي
الأعظمية تتباشر وتتجمع على شاطئ النهر بمجئ السفن، فيهرعون اليها لغرض البيع والشراء، لان الاعظمية كانت
تمتاز بيع الصوف والجلود وملحقاته التصنيعة كالعباءات والغزول والخيوط وما الى ذلك، وكانوا يشترون من السفن
المواد القادمة من الشمال وكذلك الرقي والبطيخ وغيرها مما تحمله تلك السفن، من مواد مختلفة، فيتم البيع والشراء إمّا
نقداً بالروبية العثمانية، او بالمقايضة، وذهبت الناس بكلامها العامي (جتي السفينة... راحت السفينة) ومن ثم أطلق
على هذه المنطقة تسمية (السفينة) وصارت تعرف كذلك حتى اليوم... ومنذ أكثر من قرن من الزمان..
حين تذكر السفينة لابد وأن تذكر معها مكتبة الحاج حمدي ومسجده ومجلسه الشهير، ولابد أن يذكر طرشي ذيب وشارع
سعدة الذي يربط السفينة بمرقد الإمام الأعظم، وجامع صالح أفندي، ومقهى السفينة، وصخرة السفينة التي يمارس فيها
صبيان السفينة هوايتهم بالقفز إلى الماء، وأشتهر من السفينة الشهيد (عثمان) بطل موقعة جسر الأئمة الذي انقذ أعدادا
كبيرة من ضحايا كارثة الجسر من زوار مرقد الكاظم عليه السلام، وذهب هو شهيدا ليثبت أن العراقيين يمقتون الطائفية.
وفي السفينة كبار بيوتات الأعظمية الشهيرين مثل بيت الحاج أرزوقي الحامد، وبيت عائلة سيد عبد اللطيف(الطوفي)بن
الحاج صافي الاعظمي، وعائلة المالو، وثابت النعمان، وعائلة عبد القادر عثمان خليل ابراهيم العبيدي، و
ولقد سررت حين إطلعت من خلال (الفيسبوك) على موقع أنشأه أبناء منطقة السفينة أسموه (موقع أبناء السفينة) وحبذا
لو إقتدى هذا المنهج سائر أبناء بغداد الأوفياء لتخليد محلاتهم وتوثيق المعلومات عنها خدمة للأجيال الجديدة وخدمة
للتاريخ..
الأعظمية وتأريخها
ويرجع تأريخ نشوء الأعظمية إلى العصر العباسي حيث توفي الإمام أبو حنيفة النعمان صاحب المذهب المشهور بإسمه،
والذي يتبعه مئات الملايين من المسلمين حول العالم، ودفن فيها فأنشئت بعد ذاك محلة صغيرة وأسواق حولها. ولقد
مرت هذه المدينة في تطورها بثلاث مراحل وهي:
المرحلة الأولى: عند نشوئها وأتساعها بعد ذلك ثم الحروب والحوادث التي أصابتها مما أدى إلى ضمورها وانحسارها
وبخاصة في العهد البويهي.
المرحلة الثانية: عند تأسيس مدرسة الإمام الأعظم أبي حنيفة سنة 459هـ/ 1066م، وتردد العلماء إليها، وانتقال
مساكن العلماء والطلاب إليها مما زاد في حركتها العلمية والثقافية.
المرحلة الثالثة: عند مجيء السلطان العثماني مراد الرابع إلى بغداد عام 1048 هـ/ 1638 م، وإعادة تعميرها بعد أن
دمَّرها الصفويون الفرس، وحوّلوا مرقد الإمام النعمان أبي حنيفة إلى مربط لخيولهم، فقام السلطان مراد بإسكان أعداد
كبيرة من القبائل العربية المعروفة (مثل العبيد، والعزة، والمشاهدة) وغيرهم من القبائل العربية القحطانية، الحميرية
لحمايتها من هجمات الفرس.
هذه الصورة مصغره ... نقره على هذا الشريط لعرض الصوره بالمقاس الحقيقي ... المقاس الحقيقي 521x330 والحجم 50 كيلوبايت .
وقد طور العثمانيون مدينة الأعظمية، وإهتموا ببناء مسجد الإمام الأعظم، لأنهم كانوا يتبعون المذهب الحنفي، مذهب
الدولة العثمانية. وكانت مدينة الأعظمية عند دفن الإمام أبي حنيفة فيها منطقة عامرة بالبساتين والأسواق، وكانت تقع
خارج أسوار المدينة المدورة التي بناها الخليفة أبا جعفر المنصور.
ومع التطور الاقتصادي والأجتماعي في مدينة بغداد، منذ الثلاثينات حتى 1958، كانت الأعظمية أحد المناطق التي
أنتقل لبناء البيوت فيها سكان المحلات البغدادية القديمة والقادمين من المدن الأخرى وخصوصاً من كبار موظفي الدولة
والقضاة وضباط الجيش والطبقة البورجوازية الصغيرة. وبعكس مدينة الأعظمية القديمة المبنية على الطراز البغدادي
القديم أي الحوش في الداخل (كما هي منطقة السفينة)، فإن السكان الجدد بنوا دوراً في مناطق هيبت خاتون وشارع
الضباط ونجيب باشا ومناطق الشط عند السفينة وماجاورها من خلال بناء الفلل. ولقد غيَّر ذلك من طبيعة منطقة
الاعظمية وجعلها تمثل خلال هذه الفترة حداثة المجتمع العراقي وفسيفسائه وهو الذي جعل الاعظمية في تلك الفترة معقلاً
للحركة الاجتماعية والثقافية والسياسية في البلاد.
وقد وصف الرحالة العربي الشهير ابن جبير في رحلته الى بغداد سنة 580هـ1184م الجانب الشرقي بما يلي:
(وبأعلى الشرقية خارج البلدة محلة كبيرة بإزاء محلة الرصافة كان باب الطاق المشهور على الشط وفي تلك المحلة
مشهدٌ حَفيلُ البنيان له قبة بيضاء سامية في الهواء فيه قبر الامام الأعظم أبي حنيفة النعمان وبه تعرف المحلة)...
أما الرحالة إبن بطوطة فقد وصف بغداد بزيارته 727هـ 1327م وذكر المساجد التي تقام الجمعة فيها وهي جامع
الخليفة وجامع السلطان وجامع الرصافة (بالاعظمية) وبينه وبين جامع السلطان نحو ميل، وبقرب الرصافة قبر الامام
ابي حنيفة النعمان..
ويسمى الجانب الشرقي من بغداد باب الطاق (نسبة الى اسماء بنت منصور) وجانب الرصافة ويسمى عسكر المهدي ..
والآن لم يبق من المكان سوى الجامع ومقابر الخلفاء ومحلة ابي حنيفة.
اما سوق يحيى فيشير المقدسي الى انها كانت قرب مشهد الامام ابي حنيفة ،وكانت الدكاكين عالية، وفيه دقاقون
وخبازون وحلاقون ..وعلى امتداد الطريق الصاعد شمالا من سوق يحيى يقع سوق خالد وهو الآخر لايبعد عن مرقد
الامام ابي حنيفة..وعلى مقربة منه سوق صغير.وهناك اسواق اخرى في الاعظمية: سوق الثلاثاء وسوق باب الطاق
وسوق العطش الذي هو بين الشماسية والرصافة تتصل بمسناة معز الدولة.
اما الباب الشمالي فيسمى باب السلطان نسبة الى السلطان طغرل بيك الذي دخل بغداد من هناك..وكان يقع هذا الباب عند
باب المعظم الحالي على مسافة من جامع السلطان في المخرم (العيواضية) وعنده سوق يدعى سوق السلطان...وقد
سمي باب المعظم بهذا الاسم لكونه يعتبر ابتداء للشارع المؤدي إلى محلة الامام الاعظم.. وبقي الباب حتى عام
1923م حين هدم...ومحل الباب تحديدا اليوم بين قاعة الشعب وجامع الأزبك
مهما كتبنا عن بغداد ومحلاتها الخالدة فلا يمكن أن نوفيها حقها وعظمتها.
[/size]