بوابة الاعظمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ثقافي اجتماعي اسلامي وتاريخي ورياضي والشعر والقصة


    روائع الشعر العراقي/نازك الملائكة/شجرة القمر/1

    النجم الساطع
    النجم الساطع
    المراقب العام
    المراقب العام


    عدد المساهمات : 390
    تاريخ التسجيل : 02/07/2010
    العمر : 36

    روائع الشعر العراقي/نازك الملائكة/شجرة القمر/1 Empty روائع الشعر العراقي/نازك الملائكة/شجرة القمر/1

    مُساهمة  النجم الساطع الإثنين يونيو 27, 2022 3:38 am

    على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ
    وغلّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ مُعَنْبَر ْ
    وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ
    وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السَّمَاءْ
    هنالكَ كان يعيشُ غلامٌ بعيدُ الخيالْ
    إذا جاعَ يأكلُ ضوءَ النجومِ ولونَ الجبالْ
    ويشربُ عطْرَ الصنوبرِ والياسمين الخَضِلْ
    ويملأ أفكارَهُ من شَذَى الزنبقِ المُنْفعلْ
    وكان غلامًا غريبَ الرؤى غامض الذكرياتْ
    وكان يطارد عطر الرُّبَى وصَدَى الأغنياتْ
    وكانت خلاصةُ أحلامِهِ أن يصيدَ القَمَرْ
    ويودعَهُ قفصًا من ندًى وشذًى وزَهَرْ
    وكان يقضِّي المساءَ يحوك الشباكَ ويَحْلُمْ
    يوسّدُهُ عُشُبٌ باردٌ عند نبع مغمغِمْ
    ويسْهَرُ يرمُقُ وادي المساء ووجْهَ القَمَرْ
    وقد عكستْهُ مياهُ غديرٍ بَرُودٍ عَطِرْ
    وما كان يغفو إذا لم يَمُرّ الضياءُ اللذيذ
    على شَفَتيهِ ويسقيهِ إغماءَ كأسِ نبيذْ
    وما كان يشربُ من منبع الماء إلاّ إذا
    أراق الهلالُ عليه غلائلَ سكرى الشَّذَى

    وفي ذات صيفٍ تسلّل هذا الغلامُ مساءْ
    خفيفَ الخُطَى, عاريَ القدمين, مَشُوقَ الدماءْ
    وسار وئيدًا وئيدًا إلى قمَّةٍ شاهقهْ
    وخبّأ هيكلَهُ في حِمَى دَوْحةٍ باسقهْ
    وراح يعُدّ الثواني بقلبٍ يدُقّ يدُقّ
    وينتظرُ القَمَرَ العذْبَ والليلُ نشوانُ طَلْقُ
    وفي لحظةٍ رَفَعَ الشَّرْقُ أستارَهُ المُعْتمهْ
    ولاحَ الجبينُ اللجينيّ والفتنةُ المُلْهِمهْ
    وكان قريبًا ولم يَرَ صيّادَنا الباسما
    على التلِّ فانسابَ يذرَعُ أفْقَ الدُّجَى حالما
    ... وطوّقَهُ العاشقُ الجبليّ ومسّ جبينَهْ
    وقبّلَ أهْدابَهُ الذائباتِ شذًى وليونهْ
    وعاد به: ببحارِ الضِّياءِ, بكأس النعومهْ
    بتلك الشفاهِ التي شَغَلتْ كل رؤيا قديمهْ
    وأخفاه في كُوخه لا يَمَلّ إليه النَّظَرْ
    أذلكَ حُلْمٌ? وكيف وقد صاد.. صادَ القَمرْ?

    وأرقَدَه في مهادٍ عبيريّةِ الرّوْنقِ
    وكلّلَهُ بالأغاني, بعيْن
    وفي القريةِ الجبليّةِ, في حَلَقات السّمَرْ
    وفي كلّ حقلٍ تَنَادَى المنادون: "أين القمر?!"
    "وأين أشعّتُهُ المُخْمليّةُ في مَرْجنا?"
    "وأين غلائلُهُ السُّحُبيّة في حقلنا?"
    ونادت صبايا الجبالِ جميعًا "نُريدُ القَمَرْ!"
    فردّدتِ القُنَنُ السامقاتُ: "نُريدُ القَمَرْ"
    "مُسامِرُنا الذهبيّ وساقي صدى زَهْرنا"
    "وساكبُ عطر السنابِل والورد في شَعْرنا"
    "مُقَبّلُ كلّ الجِراح وساقي شفاه الورودْ"
    "وناقلُ شوقِ الفَرَاشِ لينبوعِ ماءٍ بَرودْ"
    "يضيءُ الطريقَ إلى كلّ حُلْمٍ بعيدِ القَرَارْ"
    "ويُنْمي جدائلَنا ويُريقُ عليها النُّضَارْ"
    "ومن أينَ تبرُدُ أهدابُنا إن فَقَدْنا القَمَر?"
    "ومَنْ ذا يرقّقُ ألحاننا? مَن يغذّي السّمَرْ?"
    ولحنُ الرعاةِ تردّدَ في وحشةٍ مضنيهْ
    فضجّتْ برَجْعِ النشيدِ العرائشُ والأوديهْ
    وثاروا وساروا إلى حيثُ يسكُنُ ذاكَ الغُلامْ
    ودقّوا على البابِ في ثورةٍ ولَظًى واضطرامْ
    وجُنّوا جُنُونًا ولم يَبْقَ فوق المَرَاقي حَجَرْ
    ولا صخرةٌ لم يُعيدا الصُّرَاخَ: "نُريدُ القَمَرْ"
    وطاف الصّدَى بجناحَيْهِ حول الجبالِ وطارْ
    إلى عَرَباتِ النجومِ وحيثُ ينامُ النّهَارْ
    وأشرَبَ من نارِهِ كلّ كأسٍ لزهرةِ فُلِّ
    وأيقَظَ كلّ عبيرٍ غريبٍ وقَطْرةِ طلِّ
    وجَمّعَ مِن سَكَراتِ الطبيعةِ صوتَ احتجاجْ
    ترددَ عند عريش الغلامِ وراء السياجْ
    وهزَّ السكونَ وصاحَ: "لماذا سَرَقْت القَمَرْ?"
    فجُنّ المَسَاءُ ونادى: "وأينَ خَبَأْتَ القَمَرْ?" يهِ, بالزّنْبقِ

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 12, 2024 6:03 pm